فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

قوله تعالى: {كتاب أنزل إليك} يعني هذا كتاب أنزله الله إليك يا محمد وهو القرآن {فلا يكن في صدرك حرج منه} يعني: فلا يضيق صدرك بالإبلاغ وتأدية ما أرسلت به إلى الناس {لتنذر به} يعني: أنزلت إليك الكتاب يا محمد لتنذر به من أمرتك بإنذاره {وذكرى للمؤمنين} يعني: ولتذكر وتعظ به المؤمنين وهذا من المؤخر الذي معناه التقديم، تقديره: كتاب أنزلناه إليك لتنذر به وذكر للمؤمنين فلا يكن في صدرك حرج منه.
قال ابن عباس: فلا تكن في شك منه لأن الشك لا يكون إلا من ضيق الصدر وقلة الاتساع لتوجيه ما حصل له. اهـ.

.قال أبو حيان:

ونهيه تعالى أن يكون في صدره حرج منه أيّ من سببه لما تضمنه من أعباء الرسالة وتبليغها لمن لم يؤمن بكتاب ولا اعتقد صحة رسالة وتكليف الناس أحكامها وهذه أمور صعبة ومعانيها يشق عليه ذلك وأسند النهي إلى الحرج ومعناه نهي المخاطب عن التعرض للحرج، وكان أبلغ من نهي المخاطب لما فيه من أنّ الحرج لو كان مما ينهى لنهيناه عنك فانتهِ أنت عنه بعدم التعرّض له ولأن فيه تنزيه نبيه صلى الله عليه وسلم بأن ينهاه فيأتي التركيب فلا تخرج منه لأنّ ما أنزله الله تعالى إليه يناسب أن يسرّ به وينشرح لما فيه من تخصيصه بذلك وتشريفه حيث أهّله لإنزال كتابه عليه وجعله سفيرًا بينه وبين خلقه فلهذه الفوائد عدل عن أن ينهاه ونهي الحرج وفسر الحرج هنا بالشك وهو تفسير قلق وسمّى الشكّ حرجًا لأن الشاكّ ضيّق الصدر كما أنّ المتيقن منشرح الصدر وإن صحّ هذا عن ابن عباس فيكون مما توجه فيه الخطاب إليه لفظًا وهو لأمته معنى أي فلا يشكّوا أنه من عند الله.
وقال الحسن: الحرج هنا الضيق أي لا يضيق صدرك من تبليغ ما أرسلت به خوفًا من أن لا تقوم بحقّه.
وقال الفرّاء: معناه لا يضيق صدرك بأن يكذّبوك كما قال تعالى: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفًا} وقيل: الحرج هنا الخوف أي لا تخف منهم وإن كذبوك وتمالؤوا عليك قالوا: ويحتمل أن يكون الخطاب له ولأمته، والظاهر أنّ الضمير في {منه} عائد على الكتاب، وقيل على التبليغ الذي تضمنه المعنى.
وقيل على التكذيب الذي دلّ عليه المعنى، وقيل على الإنزال، وقيل على الإنذار.
قال ابن عطية: وهذا التخصيص كله لا وجه له إذ اللفظ يعمّ جميع الجهات التي هي من سبب الكتاب ولأجله وذلك يستغرق التبليغ والإنذار وتعرّض المشركين وتكذيب المكذبين وغير ذلك {فلا يكن في صدرك حرج منه} اعتراض في أثناء الكلام، ولذلك قال بعض الناس إن فيه تقديمًا وتأخيرًا {ولتنذر} متعلق بأنزل انتهى.
وكذا قال الحوفي والزمخشري أنّ اللام متعلقة بقوله: {أنزل} وقاله قبلهم الفرّاء ولزم من قولهم أن يكون قوله: فلا يكن في صدرك حرج اعتراضًا بين العامل والمعمول.
وقال ابن الأنباري: التقدير فلا يكن {في صدرك} حرج منه كي تنذر به فجعله متعلقًا بما تعلّق به في صدرك وكذا علقه به صاحب النظم فعلى هذا لا تكون الجملة معترضة وجوّز الزمخشري وأبو البقاء الوجهين إلا أنّ الزمخشري قال: فإن قلت: بم يتعلق قوله: {لتنذر} قلت: بأنزل أي أنزل إليك لإنذارك به أو بالنهي لأنه إذا لم يخفهم أنذرهم ولذلك إذا أيقن أنه من عند الله شجّعه اليقين على الإنذار لأنّ صاحب اليقين جَسور متوكّل على عصمته انتهى.
فقوله أو بالنهي ظاهره أنه يتعلق بالنّهي فيكون متعلقًا بقوله فلا يكن كان عندهم في تعليق المجرور والعمل في الظرف فيه خلاف ومبناه على أنه هل تدلّ كان الناقصة على الحدث أم لا فمن قال إنها تدلّ على الحدث جوّز فيها ذلك، ومن قال إنها لا تدلّ عليه لم يجوّز ذلك. اهـ.

.قال أبو السعود:

وقوله عز وجل: {كِتَابٌ} على الوجه الأولِ خبرُ مبتدإ محذوفٍ وهو ما ينبئ عنه تعديدُ الحروفِ كأنه قيل: المؤلَّفُ من جنس هذه الحروفِ مرادًا به السورةُ كتابٌ الخ، أو اسمُ إشارةٍ أشير به إليه تنزيلًا لحضور المؤلَّفِ منه منزلةَ حضورِ نفسِ المؤلّف، أي هذا كتابٌ الخ، وعلى الوجه الثاني خبرٌ بعد خبرٍ جيء به إثرَ بيانِ كونه مترجمًا له باسمٍ بديع مُنبئٍ عن غرابته في نفسه إبانةً لجلالة محلِّه ببيان كونِه فردًا من أفراد الكتبِ الإلهية حائزًا للكمالات المختصَّة بها وقد جُوّز كونُه خبرًا، وألمص مبتدأٌ أي المسمّى بألمص كتابٌ وقد عرفتَ ما فيه من أن ما يجعل عنوانًا للموضوع حقُّه أن يكون قبل ذلك معلومَ الانتسابِ إليه عند المخاطَب، وإذْ لا عهدَ بالتسمية قبلُ فحقُّها الإخبارُ بها {أَنزَلَ إِلَيْكَ} أي من جهته تعالى بُني الفعلُ للمفعول جريًا على سَنن الكبرياءِ وإيذانًا بالاستغناء عن التصريح بالفاعل لغاية ظهورِ تعيُّنِه وهو السرُّ في ترك ذكرِ مبدأ الإنزال كما في قوله جل ذكره: {بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ} ونظائرِه والجملةُ صفةٌ لكتابٌ مشرِّفةٌ له ولمن أُنزل إليه وجعلُه خبرًا له على معنى: كتابٌ عظيمُ الشأنِ أُنزل إليك خلاف الأصل {فَلاَ يَكُن في صَدْرِكَ حَرَجٌ} أي شك كما في قوله تعالى: {فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ} خلا أنه عبّر عنه بما يلازمه من الحَرَج فإن الشاكَّ يعتريه ضيقُ الصدرِ كما أن المتيقِّنَ يعتريه انشراحُه وانفساخُه مبالغةً في تنزيه ساحتِه عليه الصلاة والسلام، وما قد يقع من نسبته إليه في ضمن النهي فعلى طريقةِ التهيجِ والإلهاب والمبالغة في التنفير والتحذيرِ بإيهام أن ذلك من القبح والشرِّية بحيث ينهى عنه من لا يمكنُ صدورُه عنه أصلًا فكيف بمن يُمكن ذلك منه، والتنوينُ للتحقير والجرُّ في قوله تعالى: {مِنْهُ} متعلقٌ بحرَجٌ يقال: حرِج منه أي ضاق به صدرُه أو بمحذوف وقع صفةً به أي حرجٌ كائنٌ منه أي لا يكن فيك ما في حقِّيته أو في كونه كتابًا منزلًا إليك من عنده تعالى، فالفاءُ على الأول لترتيب النهي أو الانتهاء على مضمون الجملةِ فإنه مما يوجب انتفاءَ الشكِّ فيما ذُكر بالكلية وحصولَ اليقينِ به قطعًا، وأما على الثاني فهي لترتيب ما ذُكر على الإخبار بذلك لا على نفسه فتدبر.
وتوجيه النهي إلى الحرَج مع أن المرادَ نهيُه عليه الصلاة والسلام عنه إما لما مر من المبالغة في تنزيهه عليه الصلاة والسلام عن الشك فيما ذُكر فإن النهيَ عن الشيء مما يوهم إمكانَ صدورَ المنهيِّ عنه عن المنْهيّ، وإما للمبالغة في النهي فإن وقوعَ الشكِّ في صدره عليه الصلاة والسلام سببٌ لاتصافه عليه الصلاة والسلام به، والنهيُ عن السبب نهيٌ عن المسبَّب بالطريق البرهاني ونفيٌ له من أصله بالمرة كما في قوله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ} الآية، وليس هذا من قبيل لا أُرَيَنّك هاهنا فإن النهيَ هناك واردٌ على المسبب مرادٌ به النهيُ عن السبب فيكونُ المآلُ نهيَه عليه الصلاة والسلام عن تعاطي ما يُورِثُ الحرَجَ فتأملْ. وقيل: الحرجُ على حقيقته أي لا يكنْ فيك ضيقُ صدرٍ من تبليغه مخافةَ أن يكذّبوك وأن تُقصِّر في القيام بحقه فإنه عليه الصلاة والسلام كان يخاف تكذيبَ قومِه له وإعراضَهم عنه فكان يضيق صدرُه من الأداء ولا ينبسِطُ له فآمنه الله تعالى ونهاه عن المبالاة بهم، فالفاءُ حينئذ للترتيب على مضمون الجملةِ أو على الإخبار به فإن كلًا منهما موجبٌ للإقدام على التبليغ وزوالِ الخوفِ قطعًا وإن كان إيجابُه الثاني بواسطة الأول، وقولُه تعالى: {لِتُنذِرَ بِهِ} أي بالكتاب المنزل متعلقٌ بأُنزل وما بينهما اعتراضٌ توسّط بينهما تقريرًا لما قبله وتمهيدًا لما بعده وحسمًا لتوهم أو موردَ الشكِّ هو الإنزالُ للإنذار وقيل: متعلقٌ بالنهي فإن انتفاءَ الشكِّ في كونه منزلًا من عنده تعالى موجبٌ للإنذار به قطعًا وكذا انتفاءُ الخوفِ منهم أو العلمُ بأنه موفقٌ للقيام بحقه موجبٌ للتجاسر على ذلك. وأنت خبيرٌ بأنه لا يتأتى على التفسير الأولِ لأن تعليلَ النهي عن الشك بما ذكر من الإنذار والتذكيرِ مع إيهامه لإمكان صدورِه عنه عليه الصلاة والسلام مُشعرٌ بأن المنهيَّ عنه ليس محذورًا لذاته بل لإفضائه إلى فوات الإنذارِ والتذكير لا أقل من الإيذان بأن ذلك معظمُ غائلتِه ولا ريب في فساده، وأما على التفسير الثاني فإنما يتأتى التعليلُ بالإنذار لا بتذكير المؤمنين إذ ليس فيه شائبةُ خوفٍ حتى يُجعل غايةً لانتفائه، وقوله تعالى: {وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ} في حيز النصبِ بإضمار فعلِه معطوفًا على تنذرَ أي وتذكّرَ المؤمنين تذكيرًا، أو الجرِّ عطفًا على محل أن تنذرَ أي للإنذار والتذكير، وقيل: مرفوعٌ عطفًا على كتابٌ أو خبرٌ لمبتدإ محذوفٍ، وتخصيصُ التذكيرِ بالمؤمنين للإيذان باختصاص الإنذارِ بالكفرة أي لتنذرَ به المشركين وتذكرَ المؤمنين، وتقديمُ الإنذار لأنه أهمُّ بحسب المقام. اهـ.

.قال الألوسي:

وقوله سبحانه: {كِتَابٌ} على بعض الاحتمالات خبر لمبتدأ محذوف أي هو أو ذلك كتاب، وقوله سبحانه: {أَنزَلَ إِلَيْكَ} أي من عنده تعالى صفة له مشرفة لقدره وقدر من أنزل إليه صلى الله عليه وسلم.
وبني الفعل للمفعول جريًا على سنن الكبرياء وإيذانًا بالاستغناء عن التصريح بالفاعل لغاية ظهور تعينه وهو السر في ترك ذكر مبدأ الإنزال، والتوصيف بالماضي إن كان الكتاب عبارة، كالقرآن عن القدر المشترك بين الكل والجزء ظاهر، وإن كان المجموع فلتحققه جعل كالماضي.
واختار الزمخشري ومن وافقه أن المراد بالكتاب هنا السورة وفيه من المبالغة ما لا يخفى إن قلنا: إنه لم يطلق على البعض وإذا قلنا بإطلاقه على ذلك كما في قولهم: ثبت هذا الحكم بالكتاب فالأمر واضح.
ومن الناس من جوز جعل {كِتَابٌ} مبتدأ والجملة بعده خبره على معنى كتاب أي كتاب أنزل إليك.
ولا يخفى أن الأول أولى لأن هذا خلاف الأصل.
وحذف المبتدأ أكثر من أن يحصى.
{فَلاَ يَكُن في صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ} أي شك كما قال ابن عباس وغيره.
وأصله الضيق واستعماله في ذلك مجاز كما في الأساس علاقته اللزوم فإن الشاك يعتريه ضيق الصدر كما أن المتيقن يعتريه انشراحه وانفساحه.
والقرينة المانعة هو امتناع حقيقة الحرج والضيق من الكتاب وإن جوزتها فهو كناية.
وعلى التقديرين هو قد صار حقيقة عرفية في ذلك كما قاله بعض المحققين.
وجوز أن يكون باقيًا على حقيقته لكن في الكلام مضاف مقدر كخوف عدم القبول والتكذيب فإنه صلى الله عليه وسلم كان يخاف قومه وتكذيبهم وإعراضهم عنه وأذاهم له.
ويشهد لهذا التأويل قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ} [هود: 12] الآية.
وللأول قوله تعالى: {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} [يونس: 94] وقد يقال: إنه كناية عن الخوف والخوف كما يقع على المكروه يقع على سببه.
وتوجيه النهي إلى الحرج بمعنى الشرك مع أن المراد نهيه عليه الصلاة والسلام عن ذلك قيل: إما للمبالغة في تنزيه ساحة الرسول صلى الله عليه وسلم عن الشك فإن النهي عن الشيء مما يوهم إمكان صدور المنهي عنه عن المنهي وإما للمبالغة في النهي فإن وقوع الشك في صدره عليه الصلاة والسلام سبب لاتصافه وحاشاه به والنهي عن السبب نهي عن المسبب بالطريق البرهاني ونفى له بالمرة كما في قوله سبحانه: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ} [المائدة: 8] وليس هذا من قبيل لا أرينك هاهنا فإن النهي هناك وارد على المسبب مرادًا به النهي عن السبب فيكون المآل نهيه عليه الصلاة والسلام عن تعاطي ما يورث الحرج فتأمل انتهى.
والذي ذهب إليه بعض المحققين أن المراد نهي المخاطب عن التعرض للحرج بطريق الكناية وأنه من قبيل لا أرينك هاهنا في ذلك لما أن عدم كون الحرج في صدره من لوازم عدم كونه متعرضًا للحرج كما أن عدم الرؤية من لوازم عدم الكون هاهنا فالنافي لكونه من قبيل ذلك إن أراد الفرق بينهما باعتبار أن المراد في أحدهما النهي عن السبب والمراد المسبب وفي الآخر بالعكس فلا ضير فيه، ولهذا عبر البعض باللزوم دون السببية.